المعجزة : أمر خارق للعادة ، مقرون بالتّحدّي ، سالم عن المعارضة ، وهي إمّا حسّيه وإما عقلية . وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية ، وأكثر معجزات هذه الأمّة عقلية .
***
ولما كانت هذه الشريعة باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خُصَّت بالمعجزة العقلية الباقية ليراها ذوو البصائر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ما من الأنبياء نبّي إلا أُعْطِيَ ما مثلُه آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحْياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً " ( البخاري) ، وقيل في معنى الحديث : إن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض عصورهم ، فلم يشاهدها إلا من حضرها ، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة وخرقه العادة في أسلوبه ، وبلاغته ، وإخباره بالمغيبات ، فلا يمّر عصر من العصور إلا ويظهر فيه شيء مما أ نباء أنه سيكون مما يدل على صحة دعواه .
***
ولاخلاف بين العقلاء أن كتاب اللَّه تعالى معجز لم يقدر أحد على معارضته بعد تحدّيهم بذلك ، قال تعالى : ( وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللَّه ) (التوبة/6) ، فلولا أن سماعه حجّة عليه لم يقف أمره على سماعه ، ولا يكون حجة إلا وهو معجزة .
وقال تعالى : " وقالو لولا أُنزل عليه آياتٌ من ربّه ، قل إنما الآيات عند الَّه وإنما أنا نذيرٌ مبين " أوَلَمْ يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلَى عَلَيْهم " (العنكبوت /50-51) ، فأخبر أن الكتاب آية من آياته ، كافٍ في الدلالة ، قائم مقام معجزات غيره وآيات مَنْ سواه من الأنبياء ، ولمّا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، وكانوا أفصحَ الفصحاء ، ومصاقع الخطباء ، وتحدّاهم على أن يأتوا بمثله ، وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا ، كما قال تعالى : " فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين " (الطور/34) .
ثم تحدّاهم بعشْر سُورٍ منه في قوله تعالى : " أمْ يقولون افتراه قلْ فأتوا بعشر سور مثله وادْعُوا من استطعتم من دون اللَّهِ إن كنتم صادقين ، فأن لم يستجيبوا لكم فاعْلَمُوا أنَّما أنزل بعلم اللَّه " (هود/13) ، ثم تحدّاهم بسورة في قوله : " أم يقولون افتراه قل فأْتوا بسورةٍ مثله ..." (يونس /38) ، ثم كرر في قوله : " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتُوا بسورة من مثله ... " (البقرة /23)
فلمّا عجزوا عن معارضته والإتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء ، نادَى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن ، فقال : " قل لئن اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أن يأتُوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله ولوْ كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً " (الإسراء/88) ، هذا وهم الفصحاء اللّدّ ، وقد كانوا أحرصَ شيء على إطفاء نوره ، وإخفاء أمره ، فلو كان في مقدرتهم معارضته لعدلوا إليها قطعاً للحجَّة ، ولم يُنقَل عن أحدٍ منهم أنه حدّث نفسَه بشيء من ذلك ولا رامه ، بل عدلوا إلى العِناد تارة ، وإلى الاستهزاء أخرى ، فتارة قالوا : (سحر ) وتارة قالوا : ( شعر ) وتارة قالوا : ( أساطير الأولين ) ، كلّ ذلك من التحيّر والانقطاع ، ثم رضوا بتحكيم السيف في أعناقهم ، وسبي ذراريهم وحُرَمهم ، واستباحة أموالهم ، وقد كانوا آنف شيء وأشدّه حميّة ، فلو علموا أن الإتيان بمثله في قدرتهم لبادروا إليه ، لأنه كان أهون عليهم ، كيف وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس ، قال : جاء الوليد ابن المغيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنّه رقّ له ؛ فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال : ياعمّ ، أنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه ، لئلا تأتي محمداً لتعرض لما قاله ، قال : قد علمتْ قريش أنّي من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك إنك كاره له ، قال : وماذا أقول ! فواللَّه ما فيكم رجل أعلمُ بالشعر منّي ، ولابرجَزِه ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجنّ ، واللَّه ما يشبِهُ الذي يقول شيئاً من هذا ، وواللَّه إن لقوله الذي يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدِق أسفله ، وأنه ليعلو ولا يُعلَى عليه ، وأنّه ليحطّم ماتحته ، قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ، قال : دعني حتى أفكّر ، فلما فكّر قال : هذا سحر يُؤْثَر ، يأثره عن غيره .
وقد زعم النظّام (أبو إسحاق ، إبراهيم بن يسار النظّام ، شيخ الجاحظ وأحد رؤوس المعتزلة ، وإليه تنسب الفرقة النظامية . توفي في خلافة المعتصم العباسي بعد سنة 220 هـ ) أن إعجازه بالصَّرفة ، أي أن اللَّه صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم ، وكان مقدوراً لهم ، لكن عاقهم أمر خارجي ، فصار كسائر المعجزات . وهذا قول فاسد بدليل " قُلْ لئن اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ ..." (الإسراء/88) ؛ فلو سلبوا القدرة لم يبق لهم فائدة لاجتماعهم ، لمنزلته منزلة اجتماع الموتى .
وقال القاضي أبو بكر الباقلاّني : وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف ، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ، ومباين لأساليب خطاباتهم . قال : ولهذا لم يمكنهم معارضته .
[color=green]قال : ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر ، لأنه ليس ممّا يخرق العادة ، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنّع به ، كقول الشعر ، ورصْف الخطب ، وصناعة الرسالة ، والحِذْق في البلاغة ، وله طريق تسلك ، فأما شأو ونظم القرآن فليس له مثال يُحتذى ، ولا إمام يُقتدى به ، ولايصح وقوع مثله اتفاقاً . قال : ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر ، وفي بعضه أدقّ وأغمض .
ومن الملاحظ أن البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولاً ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرا ، وكتاب اللَّه تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدرت لسان العرب على لفظة أحسن منها لما وجدت
والقرآن الكريم جامع لمحاسن أنواع الكلام على نظم غير نظم شيء منها يدل على ذلك ، لأنه لا يصح أن يقال له : رسالة ، أو خطابة ، أو شعراً ، أو سجعاً ، كما يصح أن يقال هو كلام ؛ والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ماعداه من النظم ، ولهذا قال تعالى : " وإنه لكتابٌ عزيز لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " ( فُصّلت/41-42) تنبيهاً على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر ، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الأخرى .
والمعاندون له يقولون مرة أنه ( شعر) لما رأوه منظوماً ، ومرة إنه ( سحر) لما رأوه معجوزاً عنه ، غير مقدور عليه . وكانوا مرة بجهلهم يقولون : " أساطيرُ الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بُكرةً وأصِيلاَ " (الفرقان/5) مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم أُمِّيّ وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور .
ومن إعجاز القرآن صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس ، واللَّه هو القائل " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية اللَّه " (الحشر /21) ، فليس لأي كلام غير القرآن منظوماً ولا منشوراً طريقاً إلى القلب مع اللذة والحلاوة كما للقرآن الكريم ، واللَّه القائل " نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانِيَ تقشعرّ منه جُلودُ الذين يخْشَوْنَ رَبَّهُمْ "
وما وُجد في القرآن مما صورته صورة الموزون لا يُسمّى شعراً ، لأن شرط الشعر القصد ، ولو كان شعراً لكان كل من اتفق له في كلامه شيء موزون شاعراً ، فكان الناس كلهم شعراء ، لأنه قلّ أن يخلو كلام أحد عن ذلك ، وقد ورد ذلك على الفصحاء ، فلو اعتقدوه شعراً لبادروا إلى معارضته والطعن عليه لأنهم كانوا أحرص شيء عن ذلك ، وإنما يقع ذلك لبلوغ الكلام الغاية القصوى في الانسجام .
وغير القرآن الكريم من كلام اللَّه كالتوراة والإنجيل ليس بمعجز في النظم والتأليف ، وإن كان معجزاً كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب .
والقرآن الكريم اشتمل على أحسن الحديث وأفصحه ، مع اشتماله على الفصيح والأفصح ، والمليح والأملح ، فمن ذلك قوله : " وجنى الجنتين دان " ( الرحمن /54) لو قال مكانه ( وثمر الجنتين قريب ) لم يقم مقامه من جهة الجناس بين الجنَى والجنتين ، ومن جهة أن الثمر لا يشعر بمصيره إلى حال يُجنى فيها ، ومن جهة مؤاخاة الفواصل .
]